عمرو مصطفى ال ai
كحجرة ألقيت في بحيرة راكدة، حركت النقاش والجدل حول الصنعة ومستقبلها، كان الظهور الأخير "لعمرو مصطفى" في احد البرامج التي تدور فكرتها حول لقاء فنانين "مختلفين" في استوديو لصناعة أغنية. وسبب الجدل هذه المرة ليست تصريحات "عمرو مصطفى" النارية ولا صراعاته التي اعتدنا عليها في آخر عشرين عام، في الموسيقى والمجتمع وحتى السياسة. هذه المرة مختلفة واختلافها الحقيقي، أن تأتي من عمرو مصطفى نفسه، الذي فجرها في بداية الحلقة متسائلا: هاتشتغلوا بالطريقة القديمة ولا الطريقة الجديدة؟
الأمر الذي أعطى إنطباعا سريعا ومنطقيا جدا، هل سنعمل بطريقة التلحين والتوزيع الكلاسيكية للبوب، أم سنعمل بالطريقة الحديثة في الأنتاج الموسيقي اعتمادا على الموسيقى الإليكترونية وكتابة الكلمات على ال Beat.. ليفاجئهم انه يشير إلى "الذكاء الاصطناعي"، بإعتباره الأحدث في صناعة الموسيقى..
مدفوعا بكل حماس وطاقة إنطلق "عمرو مصطفى، في استعراض هذا "المارد" الجديد، بدا الموقف خليط فريد من إحساس..
خالك اللي جاب موبيل تاتش لأول مرة من الخليج، واقفا في صالة بيتكوا متقمصا شخصية "ستيف جوبز" يشرح كيف سيغير هذا الاختراع عالمنا، وانتوا اصلا قاعدين على انتريه مدهب من التمانينات مغطيينه بكسوه أم ورد دي، وفاتحين الشبابيك والجيران قاعدين علي حجركوا ف القعدة وبتكحوا أسفلت..
واحساس آخر لم استطيع انكاره مهما حاولت، بدا لي "عمرو مصطفى" وكأنه أتى في آخر الزمان منتقما.. منتقما من كل شيء، منتقما من المطرب والموزع والعازفين والصناعة، منتقما من التكنولوجيا.. بتكنولوجيا "أفجر" منها وأشد فتكا بكل من هم في الصناعة، لا ينقصك سوى بضعة دولارات تكلفة الحساب الاحترافي علي الخدمة. اما الشخصية وركوب السوق فهو الأساس، لأنني من مكاني هذا "كعمرو مصطفى" وبأسمي وما حققته استطيع ان اتحدث عن ال Ai بحرية وانفتاح، لأنه تحقق وأثبت كل شيء كان يريد إثباته.
ربما انطبعت هذه الصورة الذهنية عنه نتيجة لصراعاته، واحتياجه الدائم لخصم وصراع ما، ليلمع ويصبح في الواجهة. ربما حماسته وطريقة عرضه وتعبيره عن نفسه وعن أفكاره، دائما ما تعطيني هذا الشعور بدوافعه الانتقامية الدائمة.. عموما ممكن!
ما يهمني هنا هو محاولة فهم معضلة استخدام "الذكاء الاصطناعي" علي مستوى احترافي في الصناعات الإبداعية، وهنا على وجه الخصوص في صناعة الموسيقى..
مغني لكل مواطن
دعونا نتخيل سيناريو مستقبلي، فيه الai منتشرا على مستوى شعبي وجماهيري كبير.. وقتها ستصبح الموسيقى مثل الغيمز، ولا أقصد هنا تطبيقات صناعة الموسيقى فهي تحولت لإحساس ممارسة الغيمز كواجهات منذ زمن، ولكن أقصد اللعبة بشكل عام لعبة الشخصية والقصة والحضور والصوت الموسيقى ونوعية الكلمات والرسالة الفنية، وكل التفاصيل الإنسانية والفنية المعقدة التي تميز كل فنان وتصنع جماهيريته.. كلها ستصبح مثل لعبة "فورتنايت" مثلا انت تستطيع ان "تكريت" شخصية بشكل وقصة وأسلوب، تستطيع ان تمزج عدد من الفنانين (اسلوبهم، كلماتهم، صوتهم، قصتهم والشخصية) لتصنع "فنانك" الجديد المفضل، الذي سيعطيك تايم لاين متكامل ليس فقط علي مستوى الأغاني، بل الأخبار والصراعات وجلسات التصوير، والفيديوهات التحفيزية..
ستتعدى الإمكانيات فكرة "صناعة الأغنية"، وسيصبح متاحا لكل مواطن، أن يكون مؤسسة كاملة لصناعة "النجم" مثل شركات صناعة نجوم ال KPOP ستصبح ملكا على عالمك الموسيقي الخاص، وستحقق من خلاله كل احلامك ورغباتك التي طالما كتبتها في تعليقات تحت اعمال الفنانين..
في رأيي لم يكن "الأوتوتيون" آخر قفزة تكنولوجية كبيرة في الموسيقى قبل ظهور الai، ولكن القفزة الكبرى كانت في تقبل الجمهور نفسه لفكرة "الصوت الروبوتي" للأوتوتيون، وتقبلهم لفكرة إن (الغناء مابقاش بالصوت الحلو). هذا التقبل الصوتي في مجال وموهبة كانت نخبوية جدا، إلى تحولنا لفكرة ان الجميع بإمكانهم الغناء، يمكن الإستناد عليه، لفهم ما يستطيع المجتمع تقبله في المستقبل من ذوق، ثم إنتشاره وتجريبه واستخدامه علي مستوى شعبي وجماهيري.
وعلي جانب آخر إلى أي مدى ومتى سيتقبل ويعتاد الجمهور، فكرة أن يطل عليهم صناع موسيقى عبر شاشات الميديا، ماسكين موبيلات وبيخلصوا الأغنية في خمس دقائق؟! ويبقى دة العادي جدا.
ووقتها سنصبح معلقين وناقدين على اشياء اخرى، مثل تفاعل وحماس وحنكة "عمرو مصطفى" في التعامل مع الشباب وكل ما هو حديث، هانهرب لجانب انساني في العملية الإبداعية كالعادة ونحاول نتكلم عنه مثلا؟ يعني نتكلم عن الحياة الشخصية لكاتب الأوامر لل ai ..
حسنا، هل "كاتب أوامر ai " هو صانع محتوى وانفلونسر وبلوجر ثم موسيقي وكاتب ومؤلف العصر القادم؟
الفنان دة قصة ولا مناظر؟
في فيلم المنسي اراد "وحيد حامد" ان يرسم مشهدا مثاليا، للكبت الذي يعانيه جمهور الشباب في مصر وقتها، وقيمة الفن والسينما.. فكتب مشهدا يدخل فيه عادل امام علي محمد هنيدي واحمد آدم، الواقفين وسط الزحام امام سينما تعرض افلام في اطار مهرجان سينمائي، وهي فرصة للشباب لمشاهدة افلام بدون حذف.. ليسألهم "عادل امام" : الفيلم دة قصة ولا مناظر؟
من الظهور الأول الحقيقي للإعلام الحديث، تغيرت الموسيقى الى الأبد، يبدو الأمر الأن كما لو كانت الموسيقى عبارة عن فيلم عن حياة المغني والأغاني التي يقدمها في مسيرته، هي "ساوند تراك" هذا الفيلم.
تعدت الفكرة رغبة الجمهور لمعرفة المزيد والمزيد عن حياة الفنان وتفاصيله، إلى حتمية تقديم الفنان لشخصية وسيناريو خاص وتفاصيل معقدة وشكل ميديا شخصية وعامة تفاعلية مع الأحداث، إلي حتمية تواجده وتقديمه لمحتوى يدعم "الشخصية" العامة وليس الموسيقي لضمان المزيد من التواجد في عالم الإعلانات. الفنان أصبح في صراع ضاغط ليس في داخل الصناعة فقط، بل تحديات في مواجهة الألجوريزم والرائج، في وقت أصبح النجاح رقميا ويمكن قياسه بأرقام المشاهدات والعوائد المادية. في وقت أصبح ينافسه "كاراكترات" أكتر في سوق المجتمع على الإنترنت. تنافسه وتزاحمه في الحضور وخطف اللقطة والترند.
اذن المهم هنا القصة وليس الإنتاج الموسيقي وجودته مثلا؟
يبدو الأمر كذلك على مستوى صناعة الموسيقى في المنطقة، بدليل صعود ودعم الفنانين مزدوجي الجنسية، اصحاب القصص متعددة الأماكن والفيوجن الثقافي والفني والاجتماعي. كذلك تيمة "قصة الهجرة" الرائجة حاليا، كما كانت رائجة منذ صعود موسيقي الراي في اوروبا. وتمكين ما هو "مختلف" ليصبح واجهة الميينستريم. حتى تستطيع الشخصية وقصتها مزاحمة هذا الكم الهائل من القصص والشخصيات على الآنترنت التي تستطيع ان تقدم هي الأخرى أغاني "تركب الترند" في أي وقت!
المناظر ايضا او "الاستاتيك" والفنان ال Aura اصبحت من الأولويات، شكل المنتج النهائي لشخصية الفنان بصريا، وما يتركه من إنطباعات بصرية، تساعد علي الظهور علي الإنترنت بشكل اكبر وسط هذا الزحام، سواء بشكله هو او بشكل منتجه الفني. الذي دخل فيه ال ai حتى علي المستوى الشعبي، لتشاهد فيديو كليبات "عصام صاصا" جالسا علي بيانو ببدلة كلاسيكية، او بعضلات يحمل مقروطة في نص الحارة ضد الأخصام..
المعضلة هنا ليست تراجع دور الإنسان والابداع البشري في مقابل الذكاء الاصطناعي، فعند اضافة فكرة تحول الموسيقى اصلا إلى صنعة، نهلل فيها للناجح رقميا، الذي حقق الفلوس والشهرة. نجد ان نقاش ال ai اصلا وخطره علي الصناعة، ساذج جدا..
لأننا نفترض ان "الفن" اصلا دلوقت قائم علي فكرة التحدي الابداعي البشري والوصول لمنتج فني عبقري موسيقيا يعكس الواقع، ويوثق صراع النفس البشرية المعاصرة مثلا..
وهو شيء عكس ما يدور في الصناعة حاليا ويشكل اغلبيتها..
تمثله مقولة "عمرو مصطفى" في الحلقة نفسها عندما هم بالبدء في صناعة الاغنية: نعمل إيه؟ يالا نعمل هيتاية؟!
وكأن الأغنيه الناجحة الHIT هي نوع وتصنيف موسيقي وفكرة اصلا، وطبعا كلنا فاهمين وعارفين إن دة حقيقي. وانه سؤال بيوضح فعلا ان كل الاغاني البوب ف السنين اللي فاتت دي كلها، كانت معلبات استهلاكية، لمعادلات اثبتت نجاح وبيتم تكرراها، و ان الai يعيد انتاج اغنية اتعملت الآلاف منها قبل كدة، مش خطر كبير كما يبدو، لأن عمرو مصطفى اصلا بيعمل كدة بقاله سنين، وبمحددات السوق.. ناجح!
