قصة قصيرة: الرأس

بلا رأس، وجد نفسه واقفا علي جانب الميدان الكبير، لا يعلم تحديدا ما الذي اتي به الي هنا، آخر ما يتذكره انه استيقظ في الصباح ليفتح ثلاجته الخاوية بحثا عن شيء يأكله.
استغرق الأمر منه وقتا، لا يعرف عدد وحداته الزمنية، ليدرك انه وسط معركة حقيقية، صيحات رافضة من شباب غاضب، وصيحات لاعنة مبعثرة آتية من الجانب الأخر، حيث يقف عساكر امن مركزي منهكي القوي، لا يحركهم سوا لعنات وركلات الضباط من خلف الصفوف.
يلمح شيئا مستديرا قذفته الأيادي الغاضبة - بلا أمل- نحو الصفوف الأمامية التي تستعد لإطلاق قنابل الغاز، يقف المشهد للحظات الجميع ينتظر رد الفعل، الصيحات تهدأ، يخترق المشهد نفس الكرة المستديرة طائرة .. عائدة، في اتجاه الشباب الغاضب، الأن اصبح قادرا علي تمييزملامح الشيء المستدير.. انفه، عيناه، شعره .. يبتسم في بلاهة، يخرج من جيبه علبة السجائر في حركة اوتوماتيكية فقد تعود ان يدخن عندما يشعر بالاثارة اثناء مشاهدة مباريات كرة القدم، يضع السيجارة في فمه، لتسقط منه بين قدميه، ينحني يلتقطها، ويعاود .. فتسقط .. يعاود .. فتسقط
بلا فم ينادي علي طفل شوارع، وجد المعركة فرصة لكسب اي شيء
خد ياض تعالي هنا
ايوة يا عم؟
شايف الراس اللي بتتحدف هناك دي، لو جيبتهالي هاديك خمسة جنيه..
هاجيبها وتديني عشرة
ماشي
يختفي الطفل وسط الجموع، يراه يشق طريقه بصعوبه، محاولا الوصول الي مكان سقوط الرأس، التي التف حولها بعض الشباب الملثم لإلتقاط صور تذكارية، سيضعونها في الليل علي انتسغرام تحت وسم #InstaHead , يهلل احدهم ملوحا بيديه صارخا، الا ينسوا القضية والموقف والنضال، يستعيد الرأس من بين ايديهم، يجري في خطوات سريعة، يقذفها نحو الجنود المنتظرة، فقد نفذت الذخيرة ولا شيء الأن غير الرأس.
يركض مجموعة من الشباب في اتجاهه، وقد حملوا صديقهم المغمي عليه، يضعونه في الارض بجانبه، يكشفون عن صدره، يري ملامحه غائرة في قفصه الصدري، الذي يحاول اصدقائه تدليكه دون جدوي، تتعالي الصيحات من بعيد، مع انطلاق موسيقي يعرفها جيدا، يدب في الجميع حماسا مجهول، تطير الرأس بين الجانبين في جنون، الان يتذكر هي موسيقي "توم وجيري"، اقتربت الصفوف وزادت الاثارة، حين تقدم عسكري نحيل، وانتزع الرأس من بين يدي شاب يرتدي تيشيرت جيفارا، يغضب الشاب، يمد يده ويسترد الرأس في عنف محتضنها وعلي وجهه نظرة شامتة، يرمي العسكري جسده نحو الشاب .. يتعلق بذراعيه .. تتبادل الجبهتان الشد والجذب .. والرأس في المنتصف.
بوووم .. صوت انفجار مكتوم، قطع من اللحم المهتريء، دماء، وفصوص مخ صغيرة، تلتصق علي وجوه الجميع، احلام وذكريات تدهسها نعال كونفرس وبيادات عسكرية، يد صغيره تفتح امامه وقد انقذت اذن، يلتقطها في حرص، يضعها في جيبه، ثم يعطي الطفل سيجارة في المقابل.
في طريق عودته لمنزله في المساء سيبتسم لصورة جرافيتي عملاقة لرأسه، مرصعة بكلمات ثورية، وسيشاهد في احد برامج "التوك شو" احلامه المبعثرة علي الأسفلت بعد الإنفجار، افكارا وبنود طويلة، في برنامج انتخابي، لن يتحقق ابدا.



The Head of Medusa (c. 1617–18) by Rubens.

المشاركات الشائعة